تخرس أصوات الاحتفالات بالذكرى السنوية العاشرة لتوقيع اتفاقية (نافتا) (اتفاقية التجارة الحرة في شمال أميركا) إلى درجة لم يتوقعها أولئك الذين انخرطوا في إنشائها. ففي الولايات المتحدة، أخفقت اتفاقية (نافتا) في تلبية متطلبات التحذيرات الأشد إلحاحاً التي أطلقها خصوم الاتفاقية، وكذلك في إنجاز التوقعات الأشد حماساً والتي أطلقها المؤيدون. لكن الاتفاقية مازالت في المكسيك موضع جدل وخلاف، لا بل إنها تتسبب بالأذى هناك ، شأنها شأن مساعي أميركا إلى تحرير التجارة في كل أرجاء نصف الكرة الجنوبي.
لكن هناك بعض الأنباء التي تسر الخاطر. ففي أميركا (هناك الصوت العملاق الذي تطلقه الوظائف التي يجري سحبها إلى خارج هذا البلد)، وهو الصوت الذي تنبأ (روس بيروت) بأنه لن يتجسد أبداً ولن يتحول إلى حقيقة ذات يوم. وقد شهدت السنوات الأولى من عمر اتفاقية (نافتا) انخفاض معدلات البطالة في الولايات المتحدة إلى مستويات قياسية جديدة لم تشهدها البلاد من قبل. (وبطبيعة الحال، يرى معظم الاقتصاديين لدينا أن مخاوف السيد (بيروت) لم تكن في المقام الأول مرتكزة على أسس كثيرة. ذلك أن الحفاظ على نسبة التوظيف في حدّها الأقصى كان الهمّ الذي يشغل بال السياسة المالية والسياسة النقدية، وليس السياسة التجارية)· لقد حققت اتفاقية (نافتا) بعض الفوائد للمكسيك أيضاً؛ ومن المعلوم أن التجارة مع أميركا، والتي غذّتها اتفاقية (نافتا)- وليس الإسعافات التي قدمها المقرضون للحيلولة دون الوقوع في مأزق مالي- هي التي كانت مسؤولة عن التعافي الاقتصادي السريع في المكسيك بعد تلك الأزمة المالية التي عصفت بالبلاد في ديسمبر من عام 1994·
لكن هناك استدراكاً على هذا، وعلى رغم أن المكسيك استفادت عموماً في بداية عمر الاتفاقية -ولا سيما من الصادرات التي خرجت من المصانع القريبة إلى الحدود المكسيكية الأميركية، تضاءلت تلك الفوائد لسببين أولهما ضعف الاقتصاد الأميركي وثانيهما التنافس الشديد بين المكسيك والصين. وفي هذه الأثناء، يواجه مزارعو الذّرة المكسيكيون الفقراء معركة تنافسية شديدة مع محصول الذّرة الأميركية الذي يحظى بدعم حكومي أميركي هائل، في حين أن سكان المدن المكسيكيين الأفضل حالاً من المزارعين يستفيدون من انخفاض أسعار الذّرة المحلية. وباعتبار أن جميع البنوك المكسيكية الكبرى-باستثناء واحد منها- قد تم بيعها إلى البنوك الأجنبية، فإن القلق يساور الشركات المتوسطة والصغيرة الحجم- لا سيما في القطاعات غير التصديرية- في ما يتعلق بمسألة إمكانية حصولها على القروض.
وقد كان معدل النمو في المكسيك ضئيلاً على مدى السنوات العشر الماضية، ولم يتجاوز 1% على أساس الدخل الفردي. وعلى رغم أنه معدل نمو أفضل منه في كثير من بلدان أميركا اللاتينية، يبقى أسوأ بكثير مما كان في مطلع القرن العشرين، حيث حققت المكسيك بين عام 1948 وعام 1973 معدل نمو سنوي قدره 3.2 % في الدخل الفردي· (وبالمقارنة نجد أن السنوات العشر من عمر اتفاقية (نافتا) قد شهدت، على رغم الأزمة التي عصفت بدول شرق آسيا، نمواً في الدخل الفردي في كوريا حيث بلغ 4.3% وفي الصين حيث بلغ 7%)·
وقد خابت الآمال التي توقعت من اتفاقية (نافتا) أن يكون من شأنها تقليص التباين في الدخل الفردي بين الولايات المتحدة والمكسيك جارتها الجنوبية، لا بل إنها في الحقيقة ازدادت في العقد الماضي وحده بمقدار 10.6% وفي هذه الأثناء يحدث تقدم مخيب للآمال أيضاً في تقليص مشكلة الفقر في المكسيك، حيث استمر تناقص الأجور الحقيقية بمعدل بلغ في العام الماضي 0.2%·
لا ينبغي أن تكون هذه النتائج مفاجئة. لماذا؟. لأن اتفاقية (نافتا) لا تمنح المكسيك سوى أفضلية ضئيلة على الشركاء التجاريين الآخرين. لكن المكسيك تتميز بانخفاض الأساس الضريبي فيها وبقلة الاستثمار في ميدان التعليم والتكنولوجيا وبارتفاع مستوى اللامساواة واللاتكافؤ، وذلك ما يجعلها في تنافس عسير وشديد مع الصين التي تتمتع بالديناميكية. وقد عزّزت اتفاقية (نافتا) قدرة المكسيك على تزويد الشركات الصناعية الأميركية بقطع الغيار الرخيصة، غير أنها لم تجعل المكسيك تدخل دائرة الاقتصاد الانتاجي المستقل.
وعندما وجّه الرئيس (بيل كلينتون) لأول مرة في باكورة أيام إدارته سؤالاً إلى (مجلس المستشارين الاقتصاديين) حول أهمية اتفاقية (نافتا)، كان مضمون ردّنا أن الفوائد الجيوسياسية أكبر بكثير من الفوائد الاقتصادية· (وكذلك شأن الاتحاد الأوروبي الذي يبقى في المقام الأول مشروعاً سياسياً على رغم كل الفوائد الاقتصادية التي حققها)·
وربما تكون أميركا مرّة أخرى مرشحة الآن لتحقيق مكاسب اقتصادية أكبر من مكاسب المكسيك، غير أن المكاسب الملموسة كانت في رأي الترجيحات ضئيلة على البلدين. وسبب ذلك أن معدلات التعرفة الجمركية في كلا البلدين كانت منخفضة جداً ولو أنها كانت في المكسيك أعلى بقليل مما هي في أميركا، وأن اتفاقية (نافتا) لم يكن من شأنها إلغاء الحواجز. ويضاف إلى ذلك أن التباين في الدّخل على